بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد فيا عباد الله:
صدق الله العظيم القائل في كتابه العزيز: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار}, وإن من أعظم نعم الله عز وجل علينا بعد نعمة الإيجاد نعمة الإيمان ونعمة الإسلام.
أما نعمة الإيمان: فقد قال الله تعالى فيها: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ}, فلله الحمد والمنة بأن أذن لنا بالإيمان به تبارك وتعالى, ومنَّ علينا حيث حبَّب إلينا هذه النعمة العظيمة, قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون}.
حيث بهذه النعمة لا يخلد العبد في نار جهنم إن دخلها لا قدر الله, وربما ببركة هذا الإيمان لا يدخل النار أبداً إلا تحلة القسم, وذلك لقوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}, ولكن إن دخلها فببركة الإيمان تقول له النار: جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي, فقد روى الطبراني عَنْ يَعْلِي بن مُنْيَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (تَقُولُ النَّارُ لِلْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي).
أما نعمة الإسلام: فقد قال الله تبارك وتعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون}, وشرح الصدر للإسلام يعني توفيق العبد لفعل أركان الإسلام من الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج.
فمن شرح الله صدره للإسلام ووفَّقه للصلاة والصيام بعد نعمة الإيمان فقد عظمت نعمة الله عليه, فلله الحمد الذي وفَّقنا لصيام هذا الشهر مع طول نهاره وشدة حره, ووالله لولا شرح الله لصدورنا لذلك لما وُفِّقْنا لذلك, لأن هناك من ضاق صدره من الصيام في شدة الحر وطول النهار فترك هذا الركن العظيم والعياذ بالله تعالى, فحرم نعمة الصوم, والنعم التي رتبها الله تعالى على عبادة الصوم.
نعم الله تعالى على الصائم:
أيها الإخوة الصائمون: شرح الله صدورنا للإسلام وتوفيقه لنا للصيام نعمة من أعظم نعم الله علينا, ولكن نعم الله تترى على خلقه, وينقلهم من نعمة إلى نعمة, ومن عطاء إلى عطاء, ولقد شاء الله تعالى أن يكرم العبد الصائم بعطاءات أخرى ـ بعد شرح الصدر للإسلام ـ منها:
أولاً: لا يعلم أجر الصائم إلا الله تعالى, فقد جاء في الحديث القدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) رواه البخاري ومسلم.
ثانياً: مضاعفة الأجر والثواب على العبادات التي يقوم بها الصائم في شهر رمضان المبارك, فإن أدى فريضة فيه ضوعفت إلى سبعين, ومن أدى فيه نافلة كتبت له بأجر الفريضة, كما جاء في الحديث الشريف: (من تقرَّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه, ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه) رواه ابن خزيمة.
ثالثاً: دعاء الصائم مستجاب حتى يفطر وعند فطره, فمن نعمة الله تعالى على عبده الصائم أن جعل دعاءه مستجاباً ما دام صائماً, جعل له دعوة مستجابة عند فطره, كما جاء في الحديث الشريف: (ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإِمَامُ الْعَادِلُ, وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ, وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ, وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ, وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) رواه الإمام أحمد والترمذي.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ) رواه ابن ماجه.
رابعاً: جعل الله تعالى للصائم فرحتين, فرحة عند فطره, وفرحة عند لقاء ربه, الأولى يفرح عند فطره حيث وفَّقه الله لصيام ليوم كاملاً, ولصيام الشهر كاملاً, ويأكل عند فطره من رزق الله الحلال, أما الثانية فهي عند لقاء ربه, حيث يكرمه ربُّنا عز وجل بالنظر إلى وجهه الكريم, كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة}.
فالصائم له فرحتان, كما جاء في الحديث الشريف: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ, وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
كم هي نعمة الله عليك عظيمة, شرح صدرك للإسلام, وغيرك ضاق صدره فحرم من نعمة الصيام, ومن النعم التي رتَّبها الله تعالى لعبده الصائم؟
كم هي فرحتك يا أيها الصائم عندما يكرمك الله تعالى بدخول الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟
أيها الصائم! أنت السعيد إن شاء الله تعالى لأنك سارعت إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين, وإن لم يكن الصائم بحقٍّ تقياً فمن هو التقي؟
حافظ على أعظم نعمتين أسبغهما الله عليك:
أيها الأخ الصائم الكريم: حافظ على أعظم نعمتين أسبغهما الله عليك, وهما نعمة الإيمان ونعمة الإسلام, أيها العبد الصائم حافظ عليهما من الضياع, يا من حضرت الجمعة, وسمعت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}, كم هي نعمة الله عليك عظيمة حيث حُرم الكثير منها, ومن جملتها نعمة شهود الجمعة والجماعة.
أقول لك يا أيها الأخ الصائم الكريم المنعَم عليه من قبل الله تعالى: حافظ على هذه النعم من الضياع, واعتبر ممن أسبغ الله عليه نعمة المال كيف يحافظ عليها, يحافظ على نعمة المال من أن تسرق أو تحرق أو تضيع, وربما سارع هذا العبدُ المُنْعَم عليه بنعمة المال فوضع ماله الذي هو من نعمة الله عليه في البنوك الربوية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, أسرع هذا العبد ووضع ماله في مكان أعلن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الحرب عليه, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون}.
أيها الصائم الكريم: والله أنت في نعمة عظيمة, أنت في نعمة الإسلام والإيمان, فلا تحتقر هذه النعمة لو حرمت لا قدر الله من نعمة المال.
هب لو أن الله عز وجل أعطاك مال قارون, وحكم فرعون, وملك نمروذ, مع حرمانك من نعمة الإسلام والإيمان, ما هي هذا العطاء؟
ولكن لو أعطاك نعمة الإسلام والإيمان, ولو حرمك من نعمة المال ـ لا قدر الله ـ فما الذي يضرك وأنت على يقين بأن رزقك مقسوم وواصل إليك, وأنك لن تموت حتى تستكمل رزقك وأجلك, كما جاء في الحديث الشريف: (أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ, فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا, فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ, خُذُوا مَا حَلَّ, وَدَعُوا مَا حَرُمَ) رواه ابن ماجه. وفي رواية لابن أبي شيبة: (ما تركت شيئاً يقرِّبكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا قد بيَّنته لكم، وإن روح القدس نفث في روعي، وأخبرني أنها لا تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها، وإن أبطأ عنها، فيا أيها الناس! اتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ رزقه أن يخرج إلى ما حرم الله عليه, فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته)؟
فإن أُكرمت بهاتين النعمتين فأنت الرابح ولو خسرت الدنيا بما فيها, إن حُرمتهما لا قدر الله فأنت الخاسر ولو ملكت الدنيا بما فيها.
قل: إني صائم:
أيها الإخوة الكرام: إن كان أهل الدنيا حريصين على سلامة نعمة المال من الضياع, فيجب علينا أن نكون أكثر حرصاً منهم على سلامة نعمة الإيمان والإسلام, وقد جاء الحبيب الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليرشدنا للحفاظ على هذه النعمة من الضياع, وخاصة في شهر رمضان, هذا الشهر الذي فُتحت فيه أبواب الجِنان, وغُلِّقت فيه أبواب النيران, وصُفِّدت الشياطين, ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصِر, جاء الحبيب الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ليرشدنا للمحافظة على هذه النعمة وخاصة في شهر رمضان, فقال صلى الله عليه وسلم: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ, وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ, مَرَّتَيْنِ) رواه البخاري ومسلم.
أيها الصائم الكريم: قل: إني عاقل فلا أضيع هذه النعمة بلحظة غضب, قل لمن خاصمك وشتمك: إني صائم, اضبط نفسك وكن رجلاً شديداً, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ, إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) رواه البخاري ومسلم.
لماذا أقول: إني صائم؟
أيها الإخوة الكرام: لماذا أقول في ساعة الشدة وفي ساعة الغضب إني صائم؟
الجواب: إني أخاف أن يحبط عملي في ساعة الغضب, لأننا نرى أن بعض المسلمين في ساعة الغضب يخرج عن طوره ورشده, ولا يضبط نفسه بضوابط الشريعة, ولا يقول كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ), فإذا به يتلفظ بأسوأ كلمة والعياذ بالله تعالى, ألا وهي سبُّ الله تعالى, أو سبُّ النبي صلى الله عليه وسلم, أو سبُّ الدين.
ماذا يترتب على من سبَّ الله تعالى والعياذ بالله تعالى؟
أيها الإخوة الصائمون: هل تعلمون ماذا يترتب على من تلفظ بكلمة الكفر والعياذ بالله تعالى؟
أولاً: من تلفظ بكلمة الكفر ـ والعياذ بالله تعالى ـ فقد حبط عمله, كما قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}, بعد أن ارتدَّ عن الإسلام والعياذ بالله تعالى.
ثانياً: إن كان حاجّاً بطل حجه, ووجب عليه إعادة الحج.
ثالثاً: يجب عليه إعادة آخر صلاة صلاها قبل خروج وقتها.
رابعاً: إن كان صائماً بطل صومه, ويجب عليه قضاء ذلك اليوم.
خامساً: إن ذبح ذبيحة قبل أن يجدِّد إسلامه فذبيحته لا تؤكل.
سادساً: إن كان متزوجاً فسخ العقد بينه وبين زوجته, ووجب عليه أن يجدِّد العقد عليها.
سابعاً: إن مات قبل أن يجدِّد إسلامه, فلا يغسَّل ولا يكفَّن ولا يصلَّى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين والعياذ بالله تعالى.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الصائمون: لنحافظ على هاتين النعمتين من الضياع, نعمة الإيمان ونعمة الإسلام, لنحافظ عليهما وخاصة في ساعة الغضب, فإن سابَّك أحد أو قاتلك فقل: إني صائم إني صائم.
صونوا ألسنتكم وخاصة في ساعة الغضب من كلمات تسخط الرب والعياذ بالله تعالى, وخاصة كلمات الكفر بكل صورها وأشكالها, وراقبوا أبناءكم من أن تزل أقدامهم في هذا المنزلق الخطير والعياذ بالله تعالى.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها, وخير أيامنا يوم نلقاك, واحفظنا وأصولنا وفروعنا وأزواجنا من كل الفتن ما ظهر منها وما بطن. آمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|